بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أبرز من غرة عروس الحضرة صبحاً مستنيراً ، وأطلع في أفلاك الكمال من بروج الجمال شمساً وقمراً منيراً ، واختار في القدم سيد الكونين حبيباً ونجيباً وسفيراً ، وأخذ له العهود على سائر مخلوقات الوجود تعظيماً له وتوقيراً ، وجعل لجلال جمال كمال بهاء غرته بطوناً اختارها لحمله وظهوراً ، وجعلها لصون صدفة درة بهجة مهجة لؤلؤة نفسه النفيسة بحوراً وجعل منها عذباً فراتاً وملحاً أجاجاً حكمة منه وتقديراً ، واجتباه وحماه من الدنس والرجس وطهره تطهيراً ، ونقله في الأصلاب من آدم إلى نوح وشيث وإبراهيم وإسماعيل وكل نبي غدا به مستجيراً ، وما منهم إلا من أخذ عليه العهد والميثاق ليؤمنن به ولينصرنه وكان ذلك في الكتاب مسطوراً ، فآدم لأجله تاب الله عليه وإدريس بسببه رفعه الله إليه ، ونوح في الفلك به توسل وهود في دعائه عليه عول ، والخليل به تشفع وإسماعيل به تضرع ، وموسى أعلم قومه بمكالمته وسأل ربه أن يكون من أمته وله وزيراً وعيسى بشر بوجوده وطلب المهلة إلى زمانه ليكون له نصيراً ، والأحبار به أخبرت والكهان به أعلنت ، والجن برسالته آمنت ، والآيات باسمه نطقت ، ونار فارس من نوره أخمدت ، والأسرة بملوكها تزلزلت ، والتيجان من رؤوس أربابها تساقطت ، وبحيرة طبريا عند ظهوره وقفت ، وكم من عين نبعت وفارت ، وانشق إيوان كسرى وشرفاته تساقطت ، وملائكة السبع سماوات بمولده تباشرت ، والسماء شرفاً له حرست ، والشهب إكراماً له لمسترق السمع رجمت ، وإبليس صاح ونادى على نفسه ويلاً وثبوراً.
أعلمت من ركب البراق عتماً *** وتلاه جبريل الأمين نديماً
حتى سما فوق السماء قدوماً *** ودنا وكلم ربه تكليماً
صلوا عليه وسلموا تسليماً
ومن المخصص بالنبوة أولاً *** وأبوه آدم طينة لم يكملا
ومن الذي نال العلا حتى علا *** شرفاً وحاز الفخر والتفخيما
صلوا عليه وسلموا تسليما
ذاك ابن آمنة البشير المنذر *** الصادق المزمل المدثر
السابق المتقدم المتأخر *** حاوي المفاخر آخراً وقديماً
صلوا عليه وسلموا تسليماً
اختاره رب السموات العلا *** واختصه بالمكرمات وفضلا
وهداه بالوحي الشريف مفضلا *** سؤلاً وذكراً من لديه حكيماً
صلوا عليه وسلموا تسليماً
هو صفوة الباري وخاتم رسله *** وأمينه المخصوص منه بفضله
لا در در الشعر إن لم أمله *** في مدح أحمد لؤلؤاً منظوماً
صلوا عليه وسلموا تسليماً
يا من براه الله نوراً للورى *** فأقام فيهم منذراً ومبشراً
ها غرس جودك في العراء وفي الثرى ***وغداً سيجمعنا المعاد عموماً
صلوا عليه وسلموا تسليماً
مني السلام عليك ما هب الصبا *** وتعانقت عذبات بانات الربى
وتناوحت ورق الحمائم في ربى *** وأضاء نورك في السماء نجوماً
صلوا عليه وسلموا تسليماً
وعليك صلى الله غالب أمره *** تعداد موجود الوجود بأسره
بالله يا متلذذين بذكره *** من كان منكم ظاعناً ومقيماً
صلوا عليه وسلموا تسليماً
فلما ولد صاحب الناموس بدا في الحضرة كالعروس ، بوجه يحكي القمر ظهوراً ، وشعر يشبه في سواده ديجوراً ، وجبين أطلع منه ضياء ونوراً ، وقد أمسى الجمال به قريراً ، وأنف أحسن من حد الحسام مشهوراً ، وشفتين كالعقيق وثغر حكى لؤلؤاً منثوراً ، وجبين كالفضة أبدت بهاء ونوراً ، وصدر أضحى بالإيمان معموراً ، ويدين فجر منهما ماء النعيم تفجيراً ، وقدم صدق أن له في سعي السعادة تأثيراً ، واضطراب الكون عند ولادته وكان مخموراً ، ونشر السعد على الوجود نشوراً ، وأصبح موطن الإيمان مغموراً ، وجاء بشير الوحي إلى أهل الأكوان وقرأ قارىء الوصل ونادى في الأقطار جماً غفيراً "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً . وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً . وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً . ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً".
وفي ليلة مولده صلى الله عليه وسلم انشق إيوان كسرى ورمي بالمحن والنوائب ، ومنعت الشياطين من الصعود إلى السماء ، وصمت آذانهم عن سماع العلا "لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب . دحوراً ولهم عذاب واصب" كل ذلك لحرمة هذا النبي الكريم والرسول العظيم الذي أنزلت عليه في محكم كتابك العزيز : "إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب" يا له من نبي كلما حن إليه المشتاق وقطع السباسب وسار على ظهور النجائب وكل ما حدا الحادي ولاحت الأعلام والمضارب بادر الكئيب المستهام وقد زاد به الوجد إلى لقيا الحبائب.
ولما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلنت الملائكة سراً وجهراً وأتى جبريل بالبشارة واهتز العرش طرباً وخرجت الحور العين من القصور ونثرت العطر نثراً ، وقيل لرضوان: زين الفردوس الأعلى وارفع عن القصر ستراً وابعث إلى منزل آمنة أطيار جنات عدن ترمي من مناقيرها دراً ، فلما وضعت محمداً صلى الله عليه وسلم رأت نوراً أضاءت منه قصور بصرى وقامت حولها الملائكة ونشرت أجنحتها نشراً ونزل الصافون والمسبحون فملؤوا سهلاً ووعراً.
قال: ولما خلق الله آدم عليه السلام ظهر نوره واسمه مكتوب على ساق العرش سطراً ، فلما انتقل النور إلى شيث عليه السلام أظهر ذلك النور جمالاً وحسناً ، ولما انتقل النور إلى نوح عليه السلام أمسى بنوره على الجودي مستقراً ، ولما انتقل النور إلى إبراهيم الخليل عليه السلام صارت النار عليه برداً ونهراً ، ولما انتقل النور إلى إسماعيل عليه السلام ففدي ببركته ووجد صبراً ، ولما انتقل النور إلى عبد المطلب وجد يسراً بعد عسر ورد بنور المصطفى صلى الله عليه وسلم الفيل وكسر أبرهة كسراً ، واهتز البيت الحرام طرباً وأشرق الصفا بنور المصطفى بمولد عروس الجمال وخدراً.
قالت آمنة: لما وضعت ولدي محمد صلى الله عليه وسلم وضعته مكحولاً مدهوناً مسروراً مطيباً مختوناً قد شرح الله له صدراً وحمله جبريل فطاف به براً وبحراً ، وحفت به الملائكة عن يمينه وشماله فرأوا جبيناً وحاجباً يفوق حسناً ونوراً وضياء وعطراً وثغراً قد أودع الله منه في قلوب العاشقين خمراً ، وسمعت آمنة صوتاً من العلى يناديها: يا آمنة لك البشرى فهذا هو جد الحسنين وأبو الزهرا ، وكان يسبح الله في بطنها سراً وجهراً ، فسبحان من خلق هذا النبي الكريم سلطان الأنبياء ورفع له في الملكوت قدراً وذكراً ، وجعل لمن فرح بمولده حجاباً من النار وستراً ، ومن أنفق في مولده درهماً كان المصطفى صلى الله عليه وسلم له شافعاً ومشفعاً وأخلف الله عليه بكل درهم عشراً ، فيا بشرى لكم أمة محمد لقد نلتم خيراً كثيراً في الدنيا وفي الأخرى ، فيا سعد من يعمل لأحمد مولداً فيلقى الهناء والعز والخير والفخر ، ويدخل جنات عدن بتيجان من در تحتها خلع خضرا ، ويعطى قصوراً لا تعد لواصف وفي كل قصر حورية عذرا ، فصلوا على خير الأنام صلى الله عليه وسلم فقد نشرت الحسنى بمولده نشراً ، وكل من صلى عليه مرة يجازيه ربنا بها عشراً.
وفي الخبر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض تواضعه يخصف نعله ويرقع ثوبه ويحلب شاته ويطحن مع الجارية ويأكل معها ، وكان هين المؤنة لين الجانب سخي الكفين سهل الخلق عبل الذراعين ، كثير الحياء حن الجذع اليابس إليه وسلم الضب عليه ، وتزلزل تحت قدميه الجبل وخاطبه الضب والجمل ، فنوره أنور وسره أظهر قدره أعلى وذكره أحلى وصوته أجمل ودينه أكمل لسانه أفصح دعاؤه أنجح نصره مؤيد واسمه في السماء أحمد وفي الأرض محمد ، هذا نبي وفي عفيف لطيف راكع ساجد مليح الهامة معتدل القامة مدور العمامة شريف الهمة عالي الدرجة صادق اللهجة واضح الحجة ، من الطيب أنفاسه ومن الصدق لسانه لا طويل ولا قصير ، مكة مولده والدلول بغلته والعضبا ناقته أحسن من القمر طلعته تكلم الذئب لهيبته وسعت الأشجار والأحجار لخدمته واختار شفاعته لأمته ، وسبح الحصا في كفه ونبع الماء من بين أصابعه وحن الجذع اليابس إليه والعنكبوت نسج عليه والحمام عشش عليه والرب صلى وسلم عليه.
وعن علي رضي الله عنه وكرم وجهه أنه قال: "ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين ونبيء يوم الإثنين وهاجر إلى المدينة يوم الإثنين وتزوج بخديجة يوم الإثنين وكان صلى الله عليه وسلم يصوم يوم الخميس والإثنين ، وتوفي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين".
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من عسرت عليه حاجة فليكثر من الصلاة والسلام علي" ، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد صلاة تكرم بها مثواه وتشرف بها عقباه وتبلغه من الشفاعة رضاه ومناه ، فهو صلى الله عليه وسلم خيركم نفساً وأطهركم قلباً وأصدقكم قولاً وأزكاكم فعلاً وأنبتكم أصلاً وأوفاكم عهداً وأمكنكم مجداً وأكرمكم نفساً وأحسنكم خلقاً وخلقاً وأطيبكم فرعاً وأحلاكم كلاماً وأزكاكم سلاماً وأجلكم قدراً وأعظمكم فخراً وأكثركم شكراً وأرفعكم ذكراً وأعلاكم أمراً وأجملكم صبراً وأقربكم يسراً وأفضلكم مقاماً وأولكم إيماناً وأوضحكم بياناً وأجملكم حبوراً وأنوركم حياً ومقبوراً ، فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.
نسب الذي حاز الكمال بأسره *** وسبى العقول بحسنه بين الملا
نسب به أضحى الجمال مكملاً *** وكساه فخراً باهراً رب العلا
يا فوز آمنة برؤيا حسنه *** وتباشرت بقدومه وحش الفلا
جبريل نادى في السماء مهللاً *** هذا الذي في الناس أضحى مرسلا
والله خص محمداً بفضائل *** من نورها نور الشريعة قد علا
من نوره للعرش نور قادم *** من نوره الكرسي قدماً يجتلى
صلى عليه الله ربي دائماً *** ما دامت الدنيا وزاد تفضلا
له النسب العالي فليس كمثله *** حسيب نسيب محسن متكرم
أقدمه في كل مدح لأنه *** إذا كان مدحاً فالنسيب المقدم
جليل بتاج للجمال مخصص *** جميل بآلاء البهاء معمم
فما الكون إلا حلة ومحمد *** طراز بأعلام الهداية معلم
فصلوا على الرسل الكرام جميعهم *** وزيدوا على طه الصلاة وسلموا
وعن كعب الأحبار رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أراد الله سبحانه وتعالى خلق المخلوقات وخفض الأرضين ورفع السموات قبض قبضة من نوره سبحانه وتعالى وقال لها: كوني محمداً صلى الله عليه وسلم فصارت تلك القبضة عموداً من نور فسجد ورفع رأسه وقال: الحمد لله ، فقال الله تعالى: لأجل هذا خلقتك وسميتك محمداً فبك أبدأ الخلق وبك أختم الرسل ، ثم أمر الله سبحانه وتعالى جبريل أن يأتيه بالطينة التي هي من نور محمد صلى الله عليه وسلم فأخذها وغمسها في أنهار الجنة فعرفت الملائكة أنه سيد المرسلين وسيد الأولين والآخرين قبل أن يعرف آدم بألف عام ثم أظهر الله تعالى نور محمد صلى الله عليه وسلم في جبهة آدم عليه السلام".
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: بلغني أن نور محمد صلى الله عليه وسلم ونور يوسف عليه السلام تقارعا في صلب آدم عليه السلام ، فكان الحسن والجمال ليوسف عليه السلام وكان النور والكمال والبهاء والنبوة والشفاعة والقرآن والشهامة والعلامة والغمامة والجمعة والجماعة والمقام المحمود والحوض المورود والقضيب لمحمد صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من قبل الله تعالى: ألا من كان اسمه محمداً فليقم يدخل الجنة إكراماً لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث الصحيح: أن البيت الذي فيه اسم محمد وأحمد فإن الملائكة تزوره في كل يوم وليلة سبعين مرة .
ثم إن الله سبحانه وتعالى قسم نور محمد صلى الله عليه وسلم عشرة أقسام فخلق من القسم الأول العرش ومن الثاني الكرسي ومن الثالث اللوح ومن الرابع القلم ومن الخامس الشمس ومن السادس القمر ومن السابع الكواكب ومن الثامن نور المؤمنين ومن التاسع نور القلب ومن العاشر روح محمد صلى الله عليه وسلم ، قال: ولما خلق الله القلم قال له: اكتب ، قال: وما أكتب ؟ قال: اكتب توحيدي في خلقي لا إله إلا الله ، فكتب القلم من كلام الله تعالى مائة ألف عام وسكن القلم ، فقال الله تعالى: اكتب ، فقال: يا رب وما أكتب ؟ قال: اكتب محمد رسول الله ، قال القلم: وما محمد الذي قرنت اسمه مع اسمك ؟ فقال الله تعالى: تأدب يا قلم ، وعزتي وجلالي لولا محمد ما خلقت أحداً من خلقي ، فعند ذلك انشق القلم نصفين من هيبة الله تعالى وصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صار له رجيف كالرعد القاصف ، ثم كتب: محمد رسول الله ، فمن صلى عليه بشر يوم القيامة بالقدوم عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من صلى علي مرة واحدة صلى الله عليه بها عشراً ، ومن صلى علي عشراً صلى الله عليه بها مائة مرة ، ومن صلى علي مائة مرة صلى الله عليه بها ألفاً ، ومن صلى علي ألف مرة حرم الله شعره وجسده على النار.
وقال صلى الله عليه وسلم: أكثركم علي صلاة أكثركم أزواجاً في الجنة.
وقال صلى الله عليه وسلم: أنا في قبري حي طري من صلى علي صليت عليه ومن سلم علي سلمت عليه.
فصلوا عليه وسلموا تسليماً.
فلما أراد أن يظهر هذه الدرة اليتيمة خلق الله آدم عليه السلام وأسجد له الملائكة ثم نفخ فيه من روحه فقال آدم: يا رب إني أسمع في جبهتي نشيشاً كنشيش الذر ، فقال الله تعالى: هذا تسبيح ولدك محمد صلى الله عليه وسلم فخذ عليه عهدي وميثاقي ألا تودعه إلا في الأصلاب الطاهرات والأمهات الزاكيات ، وكان نور محمد صلى الله عليه وسلم في جبهة آدم كالشمس في كمالها أو كالقمر في تمامه ، ثم انتقل النور إلى حواء عليها السلام فحملت بشيث ، ولم يزل ينتقل في الأصلاب الطاهرة حتى انتقل إلى عبد المطلب ، فكان إذا خرج إلى الصيد جاءت الأسد إليه تقول: اركبنا يا عبد المطلب لنتشرف بنور محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم إن عبد المطلب تزوج بامرأة من يثرب فحملت منه بعبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار ينمو ويشب حسنه وجماله ونور محمد صلى الله عليه وسلم في وجهه كدائرة القمر في كماله ، فعند ذلك زوجه أبوه بآمنة بنت وهب ، وقيل: لما تزوجها مات من نساء مكة مائة امرأة أسفاً وشوقاً لنور محمد صلى الله عليه وسلم.
بشرى لك يا آمنة ولك الهنا *** فستحملين بسيد الأكوان
بشرى لك يا آمنة نلت المنى *** بمحمد سيد ولد عدنان
قدمت مواشطها خذوا بيمينها *** وامشوا بها لمراتب الرضوان
قد أقبلت في حلة ذهبية *** صفراء مشرقة على القمصان
وتوشحت في حلتين من الرضى *** والرب فضلها على النسوان
لما تبدت في البياض كأنها *** بدر الدجى ما شيب من نقصان
في الحلة الحمراء والخضرا انجلت *** فاقت على الغزلان والأغصان
خدامها قد أقبلوا قدامها *** بمباخر ذهب ومن عقيان
فتمايلت ما بينهم وتبخترت *** وتقول سبحان الذي أعطاني
حلوا ضفائرها وأرخو شعرها *** فحكى تعطفها غصون البان
رفعوا مجالسها على سرر الرضى *** حتى غدت حوراء بين غوان
نزلت ملائكة السما في عرسها *** لينقطوها من حلى المرجان
يا ابن عبد المطلب انهض وقم *** واكشف عن الوجه المليح الشأن
انهض وناول آمنة سيف الرضى *** فتناولت سيف الرضى بأمان
طوبى لك يا آمنة ولك الهنا *** فلقد حملت بسيد الأكوان
حملت بخير الخلق مصباح الدجى *** من خص بالتنزيل والفرقان
حملاً خفيفاً لم تجد ألماً به *** وضعته مختوناً بغير ختان
ومكحلاً ومدهناً ومطيباً *** ومعطراً من سائر الألوان
صلى عليك الله يا علم الهدى *** ما غرد القمري في الأكوان
ثم إن الله سبحانه وتعالى قد تمت كلمته ونفذت مشيئته في إظهار هذا النبي الكريم والرسول العظيم البشير النذير السراج المنير سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، اللهم شفعه فينا يا كريم .
قال: فضجت الملائكة بالتسبيح والتهليل والتكبير للملك الجليل ، وفتحت أبواب الجنان وغلقت أبواب النيران فرحاً بولادة سيد الأكوان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، اللهم شفعه فينا بجاهه يا كريم ، فلما تكامل حمل آمنة فما من شهر إلا ومناد ينادي في السموات: مضى لحبيب الله كذا وكذا.
قال: فلما دخلت آمنة بالشهر السادس دعا عبد المطلب ولده عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا ولدي قد دنا البعيد من هذا المولود فانطلق إلى المدينة فاشتر لنا تمراً لوليمتنا ، فتجهز عبد الله للسفر وقبض بين مكة والمدينة ، فسبحان الحي الذي لا يموت.
قال: فلما توفي عبد الله ضجت الملائكة إلى ربها عز وجل وقالت: إلهنا وسيدنا ومولانا بقي صفوتك من خلقك وحيداً فريداً ، وقال الوحوش والجن والإنس كذلك ، وبقي كل منهم محزوناً على يتم محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال الله تعالى: يا ملائكتي كفوا ويا عبادي أنصتوا كل ذلك بقدرتي وإرادتي أنا أولى به من أمه وأبيه أنا خالقه وناصره على أعدائه ورازقه وحافظه وراعيه ، الموت حتم لازم على عبادي فكونوا منه على حذر لأنه لا يبقي ولا يذر ، فسبحان من حكم بالموت على عباده.
قال الراوي: وأول شهر من شهور آمنة أتاها آدم عليه السلام وأعلمها بمحمد خير الأنام ، وفي الشهر الثاني أتاها إدريس عليه السلام وأعلمها بفضل محمد وشرفه النفيس ، وفي الشهر الثالث أتاها نوح عليه السلام وأعلمها أن ابنها صاحب النصر والفتوح ، وفي الشهر الرابع أتاها إبراهيم الخليل وأعلمها بقدر محمد وشرفه الجليل ، وفي الشهر الخامس أتاها إسماعيل عليه السلام وأعلمها بأن الذي حملت به صاحب المكارم والتبجيل ، وفي الشهر السادس أتاها موسى الكليم عليه السلام وأعلمها بقدر محمد وجاهه العظيم ، وفي الشهر السابع أتاها داود عليه السلام وأعلمها أن الذي حملت به صاحب المقام المحمود والحوض المورود واللواء المعقود والشفاعة العظمى يوم الخلود ، وفي الشهر الثامن أتاها سليمان عليه السلام وأعلمها أن الذي حملت به نبي آخر الزمان ، وفي الشهر التاسع أتاها عيسى المسيح عليه السلام وأخبرها أن الذي حملت به صاحب القول الصحيح والدين الرجيح ، وكل منهم يقول: بشراك يا آمنة فقد حملت بسيد الدنيا والآخرة فإذا وضعته فسميه محمداً صلى الله عليه وسلم.
فلما كان أول ليلة من الشهر التاسع من شهر ربيع الأول حصل لآمنة السرور والهنا ، وفي الليلة الثانية بشرت بنيل المنى ، وفي الليلة الثالثة قيل لها : لقد حملت بمن يقوم بحمدنا وشكرنا ، وفي الليلة الرابعة سمعت تسبيح الملائكة في السما ، وفي الليلة الخامسة رأت الخليل عليه السلام وهو يقول: أبشري يا آمنة بصاحب القدر والثنا ، وفي الليلة السادسة كمل عندها الفرح والهنا ، وفي الليلة السابعة سطع النور وما ونى ، وفي الليلة الثامنة طافت الملائكة حولها لما قرب وضعها ودنا ، وفي الليلة التاسعة بدا سعدها والغنى ، وفي الليلة العاشرة هللت الملائكة بالشكر والثنا ، وفي الليلة الحادية عشر زال عن آمنة التعب والعنا ، قالت آمنة: وفي الليلة الثانية عشر من ربيع الأول أخذني طلق شديد وكانت ليلة الإثنين فأخذني رعب فبكيت على نفسي ووحدتي ، فبينما أنا كذلك وإذا بالحائط قد انشق وخرج منه ثلاث نسوة كأنهن النخل الطويل يشبهن بنات عبد مناف بأزر بيض تفوح منهن رائحة المسك ، فسلمن علي بأفصح لسان وأعذب كلام وقلن لي: لا تخافي ولا تحزني ، فقلت لهن: من أنتن ؟ قلن : حواء وآسية ومريم ابنة عمران ، ثم دخل علي بعدهن عشر نسوة فقلت: من أنتن ؟ فقلن: من الحور العين حضرنا لولادة سيد المرسلين ، قالت آمنة: فاشتد بي الطلق مع أني لا أرى ثقلاً ولا ألماً ولا دماً أصلاً ، فكشف الله لي عن بصري فرأيت مشارق الأرض ومغاربها ، ورأيت ثلاثة أعلام قد نصبت علماً بالمشرق وعلماً بالمغرب وعلماً على ظهر الكعبة ، ورأيت الملائكة أفواجاً ورأيت الطيور قد سدت الفضاء خضر الأرجل بمناقير كأنهن الياقوت يسبحن الله بلغات شتى ، فأخذني العطش وإذا بطائر قد هبط علي وبيده شربة من لؤلؤة بيضاء فناولني إياها وإذا هي أبرد من الثلج وأحلى من العسل ، فشربت ذلك الماء كله فطاب قلبي وحمدت ربي فمن له حاجة فليقل: يا قاضي الحاجات ويا مجيب الدعوات ويا غافر الذنب والخطيئات ويا كاشف الضر والبليات يا رب العالمين ، قالت آمنة: فسكتت الأصوات وهدأت الحركات وتطاولت الأعناق وإذا بطائر أبيض مر بجناحيه على ظهري فوضعت محمداً صلى الله عليه وسلم.
[القيام: الصلاة والسلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك ورحمة الله وبركاته.]
طه يا حبيبي سلام عليك
يا مسكي وطيبي سلام عليك
يا عون الغريب سلام عليك
أحمد يا محمد سلام عليك
طه يا ممجد سلام عليك
من زارك يسعد سلام عليك
أحمد يا تهامي سلام عليك
يا خير الأنام سلام عليك
من باب السلام سلام عليك
يا عزي وجاهي سلام عليك
سماك الإله سلام عليك
يا خير الخلائق سلام عليك
أفضل كل ناطق سلام عليك
ما سارت مطايا سلام عليك
ما دفعت بلايا سلام عليك
من رب رحيم سلام عليك
من رب كريم سلام عليك
يا خاتم الأنبياء والمرسلين
ولد الحبيب وخده متورد
والنور من وجناته يتوقد
ولد الذي لولاه ما كان النقا
كلا ولا كان الحمى والمعهد
جبريل نادى في منصة حصنه
هذا مليح الوجه هذا أحمد
هذا كحيل الطرف هذا المصطفى
هذا جميل الوجه هذا الأوحد
هذا جميل النعت هذا المرتضى
هذا حبيب الله هذا السيد
بشرى لآمنة برؤيا حسنه
هذا هو الجاه العريض الأزيد
في وجهه نور كما في خده
ورد كما في الشعر ليل أسود
هذا الذي لولاه ما ذكرت قبا
أبداً ولا كان المحصب يقصد
إن كان يوسف قد تكامل حسنه
فجمال ذا المولود منه أزيد
إن كان قد أعطى الكليم تقرباً
فالكل من طه لعمري يسعد
إن كان قد أعطى المسيح عبادة
فمحمد منه أجل وأمجد
يا مولد المختار كم لك من ثنا
ومدائح تعلو وذكر يحمد
يا ليت طول الدهر عندي ذكره
يا ليت طول الدهر عندي مولد
وضعته مسروراً ومختوناً كما
قد جاء في الأخبار حقاً مسند
كرر علي حديثه فأنا الذي
من بعده ولبعده لا أرقد
صلى عليه الله ما هب الصبا
سحراً وما دام المحصب يقصد
صلى عليك الله يا من اسمه
بين البرية أحمد ومحمد
قالت آمنة: لما وضعته صلى الله عليه وسلم وضعته مكحولاً مدهوناً مطيباً مختوناً ساجداً لله عز وجل ، رافعاً يديه إلى السماء ووجهه يسطع نوراً ، فاحتمله جبريل ولفه في ثوب من حرير من الجنة وطاف به مشارق الأرض ومغاربها ، قالت آمنة: وسمعت منادياً ينادي: أخفوه عن أعين الناظرين.
وقالت آمنة: وسمعت قائلاً يقول: أعطوا لمحمد صلى الله عليه وسلم صفوة آدم ومولد شيث وشجاعة نوح وحلم إبراهيم ولسان إسماعيل ورضا إسحاق وفصاحة صالح ورفعة إدريس وحكمة لقمان وبشرى يعقوب وجمال يوسف وصبر أيوب وقوة موسى وتسبيح يونس وجهاد يوشع ونغمة داود وهيبة سليمان وحب دانيال ووقار إلياس وعصمة يحيى وقبول زكريا وزهد عيسى وعلم الخضر واغمسوه في أخلاق النبيين والمرسلين ، فإنه سيد الأولين والآخرين ، ورأيت سحابة أقبلت وقائلاً يقول: قبض محمد صلى الله عليه وسلم على مفاتيح النصر وعلى مفاتيح البيت ورأيت ملكاً أقبل وتكلم في أذنيه ثم قبله وقال: أبشر حبيبي محمد فإنك سيد ولد آدم أجمعين بك ختم الله الرسل فما بقي علم في الأولين والآخرين إلا أوتيته ، وسمعت آمنة قائلاً يقول: يا آمنة لا تفتحي عليه الباب إلى ثلاثة أيام حتى تفرغ من زيارته ملائكة السبع سموات ، قالت: ففرشت له البيت وأغلقت عليه الباب وكنت أنظر إلى الملائكة تنزل عليه أفواجاً أفواجاً.
قالت آمنة: وأخمدت تلك الليلة نار فارس ولم تكن خمدت قبل ذلك بألف عام ، وانشق إيوان كسرى وشرفاته وتناثرت وسقط منه أربعة عشر شرفة وغاصت بحيرة ساوة طبرية وبطل السحر والكهانة وحرست السماء ومنعت الشياطين من استراق السمع وأصبحت أصنام الدنيا كلها منكوسة وأصبح عرش إبليس عدو الله منكوساً إكراماً لمحمد صلى الله عليه وسلم.
ولما ولد صلى الله عليه وسلم وانفصل عن أمه وقع جاثياً على ركبتيه قد شق بصره نحو السماء ، فتعجبت القوابل فأرسلن إلى جده عبد المطلب فأعلموه بذلك فكشف عنه الغطاء فإذا هو يمص أصابعه فتشخب لبناً وكان من عادة العرب إذا ولد لهم مولود التمسوا له المراضع ولا ترضعه أمه ، فلما ولد صلى الله عليه وسلم سئل جميع النساء من ذوات الرضاع فكل تقول: أنا أرضعه ، فكانت قد سبقت حكمة الله أن لا يرضع هذه الدرة اليتيمة والنفس الكريمة غير حليمة السعدية.
قالت حليمة: وفي السنة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الناس في شدة عظيمة وكانت سنة ممحلة وكنا نحن أشد الناس فقراً وعسراً فخرجت في نسوة من بني سعد يلتمسن الرضاع على أتان هزيلة ولا بها قطرة لبن ولا ننام ليلنا جميعه من بكاء أطفالنا من الجوع ولا أجد في صدري ما يشبع ولدي ، فلما دخلنا مكة شرفها الله تعالى ذهبت المراضع يلتمسن الأطفال وقد بقيت أنا وسبع مراضع ، فلقينا عبد المطلب فقال: إن عندي ولداً فتعالين حتى تنظرنه فمن كان لها فيه نصيب فلتأخذه ، قالت حليمة: فذهبنا معه فلما نظرناه جعلت كل واحدة تقول: أنا أرضعه ، وتقدمن إليه فأعرض عنهن فتقدمت إليه فحين رآني تبسم وأقبل علي فوضعته في حجري وناولته ثديي الأيمن فشربه فناولته الأيسر فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم لعلمه أن له شريكاً ، فازددت فيه حباً ورغبة ، فلما أردت أن أذهب به قال عبد المطلب: إنه يتيم مات والده ، فقلت: أمهلني حتى أشاور بعلي الحارث في ذلك ، ثم ذهبت إلى بعلي وقصصت عليه الخبر ، فقال: افعلي عسى الله أن يجعل فيه البركة لنا ، فرجعت إليه فأخذته ووضعته في حجري فأقبل عليه ثديي ، فلما أصبحت قدم لي بعلي الأتان وكان للمراضع سبعون أتاناً لم يكن فيهن أضعف من أتاني فركبتها ووضعته صلى الله عليه وسلم أمامي وإذا بالأتان قد نشطت وصارت تسبق الأتن جميعاً فتعجب الناس من ذلك وفرحت بمحمد صلى الله عليه وسلم.
قالت حليمة: فما مررت على شجر ولا على حجر ولا على مدر إلا ويقول: بشراك يا حليمة ، وصرت أنا في عجب مما رأيته وقد أخذني الطرب ونور سيد الأنام قد أزال عني حندس الظلام فلم أزل أمشي في أنواره صلى الله عليه وسلم حتى وصلت إلى بيتي وقد أضاء ما حولي فلما نظر بنو سعد إلى تلك الأنوار قالوا: يا حليمة ما هذا النور الساطع ؟
قالت حليمة: وكان صلى الله عليه وسلم يشب شباباً لا يشبه أحداً من الأطفال ، ولما بلغ سنتين فأول كلام سمعته يقول: الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً ، ولما بلغ أربع سنين قدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء عليه ، فقلنا: لو تركته عندنا فإنا نخشى عليه ونربيه ما أمكن وما قصدنا إلا بركته ، فردته معنا ولما كان في بعض الأيام قال لي: يا أماه إن إخوتي لا آراهم في النهار ، فقلت له: إنهم يرعون غنماً حول بيوتنا ، فقال: أرسليني معهم ، فعمدت إلى خرزة جذع فعلقتها عليه من العين وأخذ عصاً وخرج كما تخرج الرعاة ، ولما كان يعود في كل عشية من المرعى أسأل عن حاله فيقولون: إنا نشاهد منه آيات عجيبة إن مشى على يابس اخضر لوقته ولا يمر على شجر ولا حجر إلا وسلم عليه ، قالت حليمة: ولما كانوا في بعض الأيام يرعون الأغنام ولا أنظر إلا وأخوه يشتد فزعاً وينادي: يا أماه ويا أباه أدركا أخي القرشي فقد أخذه رجلان فشقا بطنه ، قالت: فخرجنا فوجدناه متغيراً لونه ، فقلت له: ما بك يا بني ؟ فقال لي: يا أماه قد جاءني رجلان عليهما ثياب بيض ومعهما طشت من ذهب مملوء ثلجاً فشقا بطني وأخرجا منه علقة سوداء فطرحاها وقالا: هذا حظ الشيطان منك يا حبيب الله ثم غسلا قلبي بذلك الثلج ولا أجد له ألماً ثم ختما عليه من نور وإني لأجد برد الخاتم بين أضلعي ، ثم أقبل بنو سعد يقبلونه ويسألونه عن حاله فصار يخبرهم فتعجب القوم من ذلك ، ثم قيل لي: يا حليمة أرجعيه إلى جده وأمه فإنا نخاف عليه ، قالت حليمة: فأتينا به إلى أمه فقالت لهما: ما ردكما وقد كنتما حريصين عليه ، فأخبراها بما جرى ، فقالت: استخوفتما عليه من الشيطان كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل وإن لإبني هذا لشأناً عظيماً فدعيه عنك وانصرفي ، قالت حليمة: فلما بلغ من العمر ست سنين توفيت أمه بالأبواء ، وهي قرية بين مكة والمدينة ، وكفله جده عبد المطلب ، فلما كمل له من العمر ثمان سنين مات جده عبد المطلب وكفله عمه أبو طالب ، فلما كمل له من العمر عشر سنين أتاه من الله الفخر والوقار وكان إذا مشى تظلله غمامة بيضاء تقف معه إذا وقف وتسير معه إذا سار ، فلما كمل له من العمر أربعون سنة أرسله الله رحمة للعالمين ، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وكل ناسج على منواله آمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق